لمجلة "العائلة" – 3 نيسان 2016
مع تطوّر شبكة الإنترنت في أواخر التسعينات
وظهور شبكات التواصل الاجتماعي، أصبح بإمكاننا التكلم عن عالم جديد هو
"العالم الرقمي" الذي أنتج "الهوية الرقمية". ومن الخطأ
الكبير إعتبار العالم الرقمي وكأنّه عالم وهمي أو عالم إفتراضي. يؤكّد البابا
السابق بندكتس السادس عشر في رسالته "الشبكات الاجتماعية أبواب حقيقة وإيمان:
فسحات جديدة للكرازة بالإنجيل" (2013)، بأنّ البيئة الرقمية ليست عالمًا موازيًا
لعالمنا أو افتراضيًا بحتا، فهذه الشبكات تُشكّل اليوم "أغورا Agora" جديدة، أي
ساحة عامة كساحات المدن المنفتحة حيث يتبادل الأشخاص الأفكار والمعلومات والآراء.
تكمن قوة شبكات التواصل الاجتماعي، في
انتمائها إلى الجيل الثاني للإنترنت Web
2.0.
يتميّز هذا الجيل الجديد "بالتفاعلية" Interaction
مع المستخدم User. مع هذه الشبكات لم تعد "المعلومة" هي الأساس، وإنما
المستخدم بحدّ ذاته هو أضحى المحور. فشبكات التواصل الإجتماعي عززت
"الأنا" لدى الأشخاص، ليصبح الفرد هو الأولوية بدل المعلومة.
نرى انعكاسات هذه التطور، على كافة تركيبات
المؤسسات التعليمية كالمدارس والجامعات. فاليوم تركيبة "أستاذ - تلميذ"
أي "مُرسل – متلقي" لم تعد قادرة على الصمود أمام تركيبة جديدة أكثر
"أفقيّة". فالطريقة التقليدية أي الهرمية في التواصل والتعليم لا
مكان لها هنا في العالم الحديث أو العالم الرقمي. إذا كان الهدف في المؤسسات
التقليدية هو "النشر" و"النقل La Transmission"، فالهدف في المؤسسات الحديثة هو "التواصل
والمشاركة". وإذا كان تطوير المؤسسة يعتمد على شخص واحد (المدير في مؤسسته أو
الأستاذ في صفه)، أضحى اليوم يعتمد على الجميع أي بما يسمى "الذكاء
الجماعي". بالتالي لم تعد الإدارة مركزية وإنما "لامركزية".
هذا التحوّل والتبدّل، لم تسلم منه مؤسسة
"العائلة" والتي من المعروف بأن تركيبتها "هرمية". فالكلمة
والسلطة الأولى تعودان إلى الأهل. فمن أولى مسؤولياتهم نقل الإرث (مادي كان أم
معنوي) لأولادهم. فالأب والأم يرون أنفسهم اليوم عاجزين عن ضبط وتيرة العلاقة
الطبيعية "أهل – أولاد"، ليجدوا أنفسهم يتشاركون السلطة مع دخيل جديد،
فرض ذاته بالقوّة، هو "شبكات التواصل الاجتماعي".
إضافة إلى الصعوبات التقليدية التي تربط
الأهل بأبنائهم، أضيفت عليهم اليوم إشكاليات جديدة لتجعل هذه العلاقة أكثر
تعقيدًا. بالطبع لسنا هنا بصدد تفصيل هذه الصعوبات في العلاقة، ولكن بإمكاننا ذكر
بعضها:
-
عدم قدرة الأهل على ضبط وتيرة إستخدام
أولادهم لهذه الشبكات.
-
عدم قدرتهم على مواكبة نوعية العلاقات التي
يبنيها أولادهم مع الأصدقاء الرقميين.
-
عدم قدرتهم على مواكبة التطوّر الدائم لهذه
الشبكات. وإن أراد الأهل دخول الشبكة الخاصة لولدهم، لا يلبس هذا الأخير بأن ينتقل
إلى شبكة أخرى، لرغبته في الحفاظ على خصوصيته.
-
عجز الأهل عن خلق مساحة من التعبير والحرية
كما تقدمها هذه الشبكات.
-
عدم قدرة الأهل على الإلتصاق الدائم بأولادهم
كما هي الحال مع الأجهزة الذكية الحديثة التي أضحت إمتداد لأجسام أولادهم Prothèse.
-
تعرّف الأولاد على مفاهيم حديثة خاطئة.
-
التراجع الدراسي، وضعف المشاركة الاجتماعية.
-
مخاطر جسديّة كضعف النظر، ومخاطر نفسيّة مثل
الاكتئاب والعزلة.
تطول اللائحة في تعداد تحديات الأهل أمام
صراعهم مع الشبكات الحديثة لإسترداد دورهم وسلطتهم. ولكن بإمكاننا تلخيص هذه
التحديات والصعوبات "بالعجز" أمام قدرة شبكات التواصل الإجتماعي على جذب
أولادنا إلى عالمها حتى ولو تركتهم جسديًا أمام أنظارنا.
أمام هذا الواقع الذي يعتبره الكثير من الأهل
بالمأساوي، لا بدّ من طرح السؤال المناسب الذي سيسمح لنا في المحاولة على
الإيجابة: ما هو التطوّر الضروري في المسؤوليّة الذي على الأهل تبنيه أمام واقع
شبكات التواصل الإجتماعي؟
دعونا نلخّص الإيجابة بالنقاط التالية:
-
الرغبة في الإكتشاف من جديد: إذا كان العالم كله من صنع الله، فالإنجازات
والإبداعات البشرية تحتوي أيضًا على رموز وحقائق دفينة لا بدّ من إكتشافها وقرأتها
(هذا ما يؤكّده البابا يوحنا بولس الثاني في رسالة الفادي، رقم 37-ج). هذا الأمر
يتطلب "فعل مصالحة" بين نظرتي أنا المؤمن (كأب أو أمّ) وبين ما يقدمه لي
العالم. بدأً بأن يكون لي الرغبة في اكتشاف ما يراه ويسمعه أولادي من دون حكم
مسبق. والقبول بأن أُترك معهم لأندهش. هكذا من الممكن أن تتغيّر نوعيّة حضوري
ونوعيّة علاقتي بأولادي. فالمشكلة الكبرى لدى الأولاد تكمن في شعورهم الدائم
بالحكم عليهم وعلى ما يشاهدونه وعلى كيفيّة تواصلهم. هم بحاجة بأن نفهم من جديد
عالمهم ولغتهم.
-
إحترام "الأنا" لدى أولادنا: كم سبق وقلنا تكمن قوّة شبكات التواصل
الإجتماعي في تعزيز "الأنا" لدى المستخدمين. كلما استطعنا
"كأهل" تعزيز هذه "الأنا" لدى أولادنا واحترامها وتنميتها
بعيدًا عن مفهوم الأنانيّة كلما جذبناهم إلينا أكثر. في المقابل، كلما شعر الولد
بعدم التقدير، سوف يلجأ بصورة طبيعيّة إلى بيئة أكثر تقبلًا لذاته كمثال شبكات
التواصل الإجتماعي.
-
مفهوم السلطة: تُعزَز سلطة الأهل كلما اكتشفوا بأنّها لخير أولادهم.
فالسلطة ضرورية ولا بديل عنها، وإنما للحماية من خطر الفوضى. إذا راقبنا مثلًا بعض
المجموعات Groups على شبكة الفيسبوك التي يضعف فيها عمل المدير Administrator نجد بأنّها ضعيفة وتعمّها الفوضى فيكون مصيرها الفشل. بينما مجموعة
أخرى، إدارتها تحافظ على دور كل المستخدمين Users
نراها ناجحة. هذا الأمر ينطبق على كافة مؤسسات اليوم، لاسيما العائلة التي إن
استطاع الأهل فيها فهم سلطتهم كانت ناجحة. فالأولاد بحاجة ماسة لسلطة أهلهم من أجل
نموّهم وحمايتهم من الفوضى. لا تترجم هذه السلطة بمنع أولادنا عن الدخول إلى
العالم الرقمي ولا من خلال اعتبار هذه الشبكات آمنة ومجرد لعبة وتمضية وقت.
وإنّما هي سلطة لخلق جوّ ملائم للحوار وفهم هواجس أولادنا ومرافقتهم في رحلة تكوين
"الأنا".
لقد أصبحت اليوم مسؤوليّات الأسرة أكثر تطلبًا، فبدل
هدر الوقت في المحاولات الفاشلة بإبعاد الأولاد عن العالم الرقمي، هي بالحري
مدعوّة لإعدادهم له كما هي الحال في العالم الواقعي. إنّه تحدّ كبير أمام كل ما
يتضمنه هذا العالم من تعقيدات وقدرة تأثير قد تفوق قدرة الأهل. ولكن
لا بدّ من "الثقة
في أن قدرة عمل الله تتخطى دائمًا أي ضمان بشري" كما يؤكّد البابا بندكتوس
السادس عشر.

No comments:
Post a Comment